top of page

حلمة

صلي الله علية وسلم

حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم
بلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:

المثال الأول: مع من قال: هذه قسمة ما عُدِلَ فيها: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عُيَينة مثل ذلك، وأعطى أُناسًا من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأُخْبَرِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. فأتيته فأخبرته، فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟! رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»

وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم تلك الغنائم بين هؤلاء المؤلَّفة قلوبهم، ويُوكِلَ من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (1).

المثال الثاني: مع من قال: كُنَّا أَحَقَّ بهذا: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلى رسول الله من اليمن بذهيبة (2) في أديم مقروظ (3) لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر (4) وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (5) والرابع إما علقمة (6) وإما عامر بن الطفيل،

_________
(1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 8/ 49.
(2) أي: ذهب. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(3) مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(4) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح 8/ 68.
(5) زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(6) ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري 8/ 68.


 

فقال رجل من أصحابه: كُنَّا نحن أحقُّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء؟ " قال: فقام رجل غائر العينين، مُشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مُشمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، قال: "ويلك، أولستُ أحقُّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعله أن يكون يصلي" فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُومر أن أَنقُب قلوب الناس ولا أشقَّ بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مُقَفٍّ فقال: "إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّميَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (1).
_________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد==- رضي الله عنهما - إلى اليمن 8/ 67 برقم 4351، ومسلم، في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 741، برقم 1064.

وهذا من مظاهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله؛ لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولاسيما من صلَّى (1).

المثال الثالث: مع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه: من مواقف الحلم ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي - رضي الله عنه -، فقد أسلم الطفيل - رضي الله عنه - قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه وعشيرته إلى الله - عز وجل - فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له أن دوسًا هلكت وكفرت وعصت وأبت.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسًا قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: اللهم اهد دوسًا وائت بهم، اللهم اهد دوسًا وائت بهم» (1).
وهذا يدل على حلم النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وتأَ نِّيه في الدعوة إلى الله - عز وجل -؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من رد الدعوة؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالهداية، فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأنِّي وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم،

فأسلم على يديه خلقٌ كثير، ثم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتًا من دوس، ثم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين (1).
الله أكبر! ما أعظمها من حكمةٍ أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة.
وهذا مما يوجب على الدعاة إلى الله - عز وجل - العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل الله ثم بمعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.

المثال الرابع: مع من أراد قتله صلى الله عليه وسلم: روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبَلَ نجدٍ (2) فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العضاه، فنزل

رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ، فَعلَّق سيفه بغصنٍ من أغصانها، قال: وتفرَّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلًا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتًا (1) في يده، فقال لي، من يمنعنك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام (2) السيف، فهاهو ذا جالس"، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم» (3).
الله أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس!
_________
(1) والسيف صلتاً: أي مسلولاً. انظر: شرح النووي 15/ 45.
(2) شام السيف: أي رده في غمده. انظر: المرجع السابق 15/ 45.
(3) البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة 6/ 96، 97، برقم 2910، وكتاب المغازي، باب: غزوة ذات الرقاع 7/ 426، برقم 4135، ومسلم، واللفظ له، كتاب الفضائل، باب: توكله على الله - تعالى -، وعصمة الله - تعالى - له من الناس 4/ 1786، 1/ 576، برقم 843، وأحمد 3/ 311، 364. وانظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها للميداني فقد ذكر رواية مطولة عزاها لأبي بكر الإسماعيلي في صحيحه 2/ 335.


 

أعرابي يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يعصمه الله منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخلقٌ عظيم وصدق الله العظيم إذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وهذا الخلق الحكيم قد أثر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير


 



 


 


 

تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة، لما
تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية العظيمة والفوائد الجليلة، التي تضع
للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة
ومجرياتها، وهذه بعض من المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم:

الشورى والمساواة من غزوة بدر والأحزاب
غزوة
بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية، ولعل من أبرزها موقف
النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيده لمبدأ الشورى، باعتباره مبدأً من مبادئ
الشريعة، وصورة من صور التعاون على الخير، يحفظ توازن المجتمع، ويجسّد
حقيقة المشاركة في الفكر والرأي، بما يخدم مصلحة الجميع..

فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيَّد بالوحي استشار أصحابه في
تلك الغزوة أربع مرات: حين الخروج لملاحقة العير، وعندما علم بخروج قريش
للدفاع عن أموالها، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر، واستشارهم في موضوع
الأسرى. وكل ذلك لِيُعِّلم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في
إثرائها، وتوسيع أفقها، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة.

وهذا الموقف التربوي في ترسيخ مبدأ الشورى ظهر كذلك جليًّا في غزوة
الأحزاب؛ إذ لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزحف الأحزاب إلى
المدينة، وعزمها على حرب المسلمين، استشار أصحابه، وقرروا بعد الشورى
التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان الفارسي -رضي الله عنه-
اعتمادًا على خبرته في حرب الفرس، بحفر خندق حول المدينة، وقال: "يا رسول
الله، إنّا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا". فوافقه وأقره النبي
صلى الله عليه وسلم وأمر بحفر الخندق حول المدينة، وتمّ تقسيم المسئولية
بين الصحابة.

لقد أنزل الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى منزلتها ورسخَّها في حياة
الأمة، إذ الحاجة إليها في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من
الأهمية؛ فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول في عقل،
وبناء يساهم الجميع في إقامته؛ ولذا قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

كما أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر والأحزاب -وغيرهما من
غزوات- بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه، وهو تطبيق المساواة بين الجندي
والقائد، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة، يتضح ذلك في موقفه وإصراره صلى
الله عليه وسلم في غزوة بدر على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب -رضي
الله عنهما- في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة.. وفي الأحزاب تولى المسلمون
وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المهمة الشاقة في حفر الخندق،
وكان لمشاركته صلى الله عليه وسلم الفعلية في الحفر الأثر الكبير في الروح
العالية التي سيطرت على المسلمين.

لقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر والأحزاب -وغيرهما من
الغزوات- موقفًا تربويًّا عمليًّا في الشورى وأهميتها، وفي مشاركته لأصحابه
التعب والعمل، والآلام والآمال.

لا للعصبية والفرقة في غزوة بني المصطلق
عند
ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين،
فسعوا -كعادتهم دائمًا إلى يومنا هذا- إلى محاولة التفريق بين المسلمين،
فبعد انتهاء الغزوة -كما يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه-: ضرب رجل من
المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا
للمهاجرين!

فاستثمر المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- هذا الموقف،
وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: «ما بال دعوى الجاهلية». قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة» (رواه البخاري).

فمع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ
الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]،
إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين
وإحياء للعصبية الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكارًا
شديدًا، وقال قولته الشديدة: «دعوها فإنها منتنة»؛
وذلك حفاظًا على وحدة الصف للمسلمين، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها،
سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك.

وهذا موقف تربوي عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم للأمة الإسلامية على مر العصور.

إقالة ذوي العثرات
عندما أكمل
الرسول صلى الله عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي
بلتعة -رضي الله عنه- إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها أجرًا على أن تبلغه إلى قريش،
فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة، ولكن الله -تعالى- أطلع نبيه
صلى الله عليه وسلم بما صنع حاطب، فقضى صلى الله عليه وسلم على هذه
المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهُّز المسلمين وسيرهم لفتح مكة.

والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف
أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة، بل هو
مِن أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفًا، والصحابة
بمجموعهم خير القرون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا زلّت به
القدم في لحظة من اللحظات. وكَمْ للنفس البشرية من زلات! وهذا من سمات
الضعف البشري والعجز الإنساني؛ ليعلّم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما
داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ، وهذا الذي عناه
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون» (رواه أحمد).

وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا -رضي الله عنه- معاملة رحيمة
تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل صلى الله عليه وسلم من ماضي
حاطب سببًا في العفو عنه، وهو منهج تربوي حكيم..

فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب
-وإن كانت كبيرة-، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز
دينه، فوجد أنه قد شهد بدرًا، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى
أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات
وأعمال صالحة في حياتهم، في مجال الدعوة والخير، والعلم والتربية، والجهاد
ونصرة دين الله.

قال ابن القيم: "من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان
له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعْفَى عنه
ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل
الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث".

وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمر -رضي الله عنه-: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (رواه البخاري).

إن إقالة العثرة، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة، ليس إقرارًا لخطئه، ولا
تهوينًا من زلته، ولكنها -مع الإنكار عليه ومناصحته- إنقاذ له، بأخذ يده
ليستمر في سيره إلى الله، وعطائه لدين الله.. ومن ثَمّ فإقالة إقالة ذوي
العثرات موقف تربوي عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، طبّقه مع حاطب
بن أبي بلتعة رضي الله عنه.

اذهبوا فأنتم الطلقاء
في السنة
الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على كفار
قريش، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة،
وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد أن تمكّن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه،
وأهالوا التراب على رأسه، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو
ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل صلى الله عليه وسلم، وعذبوا
أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم..

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل كل تلك الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو -يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين-، فقال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه البيهقي).

لا رجعة للوثنية
خرج مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية، وكانت لبعض
القبائل -قبل الإسلام- شجرة عظيمة خضراء يقال لها: "ذات أنواط" يأتونها كل
سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها،
وبينما هم يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع بصرهم على
الشجرة..

يقول أبو واقد الليثي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها
أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللَّهِ!
هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ
آلِهَةٌ}، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ» (رواه الترمذي).

وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم، ولكن
النبي صلى الله عليه وسلم مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ، بل حذّر
من آثاره ونتائجه، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك.

وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه، ويصحح ما يظهر من
انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع
الأعداء.

فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه برفق،
وبأفضل الطرق وأقومها، فلو أن المسلمين -وخاصة الدعاة والمربين- اقتدوا
برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمواقفه التربوية مع أصحابه، وما فيها من
حلم ورفق، ونصح وحكمة، لأثّروا فيمن يعلمونهم تأثيرًا يجعلهم يستجيبون
لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لن نغلب اليوم من قلة
الغرور يمنع
النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئًا بجانب
كثرة أعدائهم، فإن غزوة حُنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا تنفعهم
إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددًا منهم في
أي معركة أخرى خاضوها من قبل، ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئًا؛ لما دخل إلى
قلوبهم العجب والغرور، فقد حجب الغرورُ النصرَ عن المسلمين في بداية
المعركة، حينما قال رجل من المسلمين: "لن نُغْلب اليوم من قلة". فشقّ ذلك
على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة.

وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: {لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

ومن ثَمّ نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهمية الاستعانة بالله
في الحروب وغيرها، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء، فكان دائمًا
في غزواته وحروبه إذا لقي العدو يقول: «اللهم بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» (رواه أحمد). بك أحول: أتحرك، وبك أصول: أحمل على العدو.

ولعلَّ هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين، وقد انتفع به
الصحابة بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس
الأرض، وما فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك، فكلهم أيقنوا أن
النصر ليس بالعدد ولا بالعُدّة، وأن الكثرة لا تغني شيئًا، ولا تجدي نفعًا
في ساحات المعارك، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان، وأخذت
بأسباب النصر وقوانينه..

فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة والعدة فقط،
وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنًا عنها، إن لم تكن تفوقها أهمية
واعتبارًا، قال الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

إن المتأمل في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليعجب من فقهه في
معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل،
يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها
والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية.

ومن ثَمّ تمر السنون والأعوام، وتظل سيرة وغزوات النبي صلى الله عليه
وسلم نبراسًا وهاديًا، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح، والعزة
والتمكين.

bottom of page