top of page

علو همة طالب العلم

علو همة السلف في طلب العلم بمبادرتهم الزمن وحرصهم على استغلاله
من مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم مبادرتهم الأزمان حرصاً على العلم، والحقيقة أن الإنسان قد يستحيي في مثل هذه المواضع من الناس، وهذا لا يسمى حياءً، بل هذا عجز مذموم؛ لأن هناك فرقاً بين العجز والحياء، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الذي يأتي بخير، أما إذا أتى بشر فليس هو الذي يحبه الله، بل هو عجز ومهانة، فعلى الإنسان أن يكون جريئاً في المحافظة على وقته؛ لأنه لن ينجز علماً إذا لم يفرغ نفسه ووقته، فلو أن العلماء ينصحون طلبة العلم بنصائح في هذا لكان هذا أمراً جيداً، ومن ذلك النصيحة بقطع العلائق إلى أن يفرغ -مثلاً- من حفظ القرآن، فيقطع العلائق بينه وبين الناس، فالإنسان يزرع في قلبه كيفية علو الهمة، وأسباب الارتفاع والارتقاء بالهمة، ومن ذلك الاحتياط والغيرة الشديدة على الوقت أن يهدر، فما المانع من أن الإخوة إذا تزاوروا أتوا بخلاصة الموضوع الذي يريدون أن يتحدثوا فيه، ثم بعد ذلك يسمع بعضهم لبعض القرآن، أو يأتون بشيء من الذكر والعلم، كما قال بعض السلف: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب.
وطوله زيادته عما أنت محتاج إليه، فادخل في الموضوع، واتق الله في وقتك ووقت أخيك، فإذا فرغت من الموضوع وما زال لديكما وقت فاقرأ قرآناً، أو ابحث مسألة علمية.
أما أن الإخوة يتحدثون عن مباريات كرة القدم، ويخوضون في أخبار السياسة، ويشرعون في ذكر أحوال الناس فعندئذٍ ما الفرق بيننا وبين الآخرين؟! وما الذي يتميز به الملتزم الآن؟! فهذا شعبة بن الحجاج جاء إلى خالد الحذاء فقال: يا أبا منازل! عندك حديث حدثني به.
وكان خالد عليلاً، فقال له: أنا وجع -أي: مريض-.
فقال: إنما هو واحد -أي: أنا أريد حديثاً واحداً- فحدثه به، فلما فرغ قال: مت إذا شئت.
وكان يحيى بن معين شديد الحرص على لقاء الشيوخ والسماع منهم خشية أن يفوتوه.
أي أنه يمكن أن يسافر الشيخ، أو يموت، أو يحصل له أي شيء يحول بينه وبينه.
قال عبد بن حميد: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث أول ما جلس إلي فقلت: حدثنا حماد بن سلمة.
فقال: لو كان من كتابك.
يعني: حتى تكون مدققاً ضابطاً أحضر الورق التي كتبت فيها الحديث أو الكتاب واقرأ منها الحديث، يقول الإمام عبد بن حميد: فقمت لأخرج كتابي فقبض على ثوبي، ثم قال لي: أمله علي؛ فإني أخاف أن لا ألقاك.
خشي أنه إذا خرج لإحضار الكتاب قد يموت في الطريق، فيفوته الحديث، فقال: أمله علي من حفظك، ثم بعد ذلك أخرج هذا الكتاب وأقرأه علي مرة ثانية من الكتاب.
قال: فأمليته عليه، ثم أخرجت كتابي فقرأته عليه.
وعن ابن إسحاق قال: سمحت مكحولاً يقول: طفت الأرض في طلب العلم.
وروى أبو وهب عن مكحول قال: أُعتقت بمصر -أي أن مكحولاً كان عبداً- فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، ثم أتيت المدينة، فلم أدع بهما علماً إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها.
أي: بعدما جمع كل هذه العلوم وهذه الأحاديث أتى الشام وغربل هذه الأحاديث، وبدأ يميز الصحيح من الضعيف، وهذا هو عين الفطنة، وهذا هو الذي حدا بكثير من علمائنا إلى التفريق بين مرحلة التقميش ومرحلة التفتيش فمرحلة التقميش أن يدون كل ما يستطيعه، فما دام الحديث بإسناد فإنه يدون؛ لأن الشيخ يمكن أن يسافر، أو يمرض، أو تختل ذاكراته، أو يختل حفظه، فتؤثر هذه في الرواية، فلذلك يبادر الفرصة بأن يدون ما يستطيع تدوينه عن المشايخ، ثم بعد ذلك إذا كان معه الحديث والإسناد فالأداة والوسيلة التي يمكن من خلال دراستها التحقق من صحة الحديث موجودة معه، وحينئذٍ يتفرغ بعد ذلك إلى التفتيش، وهذا هو سر وجود الأحاديث الضعيفة في المراجع، فلا نظن -نحن طلبة العلم المساكين- أن هؤلاء العلماء كانوا مقصرين، وأنهم لم يكونوا يعرفون الحديث الضعيف من الصحيح، وأنه توجد في كتب كثيرة من كتب الحديث المسندة، حتى في الترمذي وفي النسائي، فضلاً عن ابن ماجه أو غير ذلك من الكتب والمسانيد التي توجد فيها أحاديث تحتاج إلى تحقيق، فهل العلماء ما كانوا يعرفون تحقيق هذه الأحاديث في تلك الأعصار الذهبية لعلم الحديث؟!

الجواب
  لا، بل كانوا يعرفون، ولكن كانوا يدونون؛ لأن هذا السند حتى لو كان ضعيفاً فإنه يمكن أن توجد له طرق أخرى مع كثرة التفتيش تقوي هذا السند، وهذا هو عين الفقه؛ لأن الواحد منهم يقيد العلم أولاً، ثم بعد ذلك يفتش وراء الأسانيد، ويجمع الطرق، فيرتقي الضعيف إلى الحسن لغيره، أو الصحيح لغيره، وهكذا، ثم إنه بهذا يكون قد اغتنم الفرصة ولم يفوتها، فالشيخ قد يسافر، وقد يرحل، وقد يموت، وقد يختل حفظه، أو هو نفسه قد يحصل له شيء، فلذلك كانوا أولاً يجمعون، ثم وظيفة التحقيق بعد ذلك تكون أسهل، لوجود الوسيلة إليها، وقد برئت عهدتهم من الأحاديث الضعيفة؛ لأنهم لم يكونوا في وقت في ليل ولا نهار إلا وهم في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى إن الإمام النووي كان يقرأ في ذهابه في الطريق، وقال: إنه بقي على التحصيل على هذا الوجه ست سنين متصلة، وكان النووي -أيضاً- أول طلبه يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على المشايخ شرحاً وتصحيحاً، درسين في الوسيط، وثالثاً في المهذب، ودرساً في الجمع بين الصحيحين، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في اللمع لـ ابن جني في النحو، ودرساً في اصلاح المنطق لـ ابن السكيت في اللغة، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، تارة في اللمع لـ أبي إسحاق وتارة في المنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين.
أي: التوحيد.
قال النووي: وكنت أعلق -أي: أكتب- جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل وإيضاح عبارة وضبط لغة، وبارك الله لي في وقتي واشتغالي وأعانني عليه.
وطالع الشيخ عبد الله بن محمد بن أبي بكر الحنبلي (المغني) للموفق ابن قدامة رحمه الله ثلاثاً وعشرين مرة، حتى كاد يستحضره

علو همة السلف في حفظ العلم الشريف
ومن ذلك -أيضاً- علو همتهم في حفظ العلم الشريف، فقد قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث -يعني مليون حديث، والمراد بذلك الأسانيد والمتون- فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته، وأخذت عليه الأبواب.
وقال سليمان بن شعبة: كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب.
يعني: أملى على تلامذته أربعين ألف حديث بالإسناد والمتن، وليس معه كتاب ينظر فيه.
وقال أبو زرعة الرازي: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.
وقال هشام الكلبي: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت مالم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتاً وحلفت أن لا أخرج حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، ونظرت في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوقها.
ولما قدم البخاري بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا أسانيدها ومتونها، فجعلوا متن هذا الإسناد لهذا، وإسناد هذا المتن لهذا، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقيها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم فسأله عن حديث فقال: لا أعرفه.
وسأله عن حديث آخر فقال: لا أعرفه.
حتى فرغ من عشرته، وكل حديث يتلوه على البخاري يقول له البخاري فيه: لا أعرفه.
والذين كانوا واقفين يقولون: من هذا البخاري الذي انخدع به الناس، فكل الأحاديث لا يعرفها ولا واحداً منها! فكأن كلما قال: لا أعرفه يقل في نظر العوام ويرتفع في نفس الوقت في عيون العلماء، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فهم.
ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه.
ثم الثالث، إلى تمام عشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على (لا أعرفه)، فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى عشرة أحاديث، بنفس الترتيب وبنفس الأخطاء، أي: تلا العشرة الأحاديث كما رواها، وقد خلطت الأسانيد وقلبت المتون، وبعدما فرغ من سردها أعادها مصححة، وأعاد الإسناد إلى متنه والمتن إلى إسناده، وهكذا، فرد كل متن إلى إسناده، وفعل بالتسعة الآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: ذلك الكبش النطاح.
أي: يمدح الإمام البخاري بالكبش النطاح، يعني: الذي يغلب في المصاولة والمحاورة.
وقال ابن النجار: سمعت شيخنا عبد الوهاب بن الأمين يقول: كنت يوماً مع الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وأبي سعد ابن السمعاني نمشي في طلب الحديث ولقاء الشيوخ، فلقينا شيخاً، فاستوقفه ابن السمعاني ليقرأ عليه شيئاً، وطاف على الجزء الذي هو سماعه في خريطته.
أي أنه لما وجد الشيخ قال: أتلو عليك هذه الأحاديث التي عندي عنك.
فقرأها عليه من حفظه كأنه يقرؤها من كتاب!.

bottom of page